الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب (نسخة منقحة)
.فتح يافا وصيدا وجبيل وبيروت وحصون عكا. لما هزم صلاح الدين الإفرنج كتب إلى أخيه العادل بمصر يسيره ويأمره بالمسير إلى جهات الإفرنج من جهات مصر فنازل حصن مجدل وفتحه وغنم ما فيه ثم سار إلى مدينة يافا ففتحها عنوة واستباحها وكان صلاح الدين أيام مقامه بعكا بعث بعوثه قيسارية وحيفا وسطورية وبعليا وشقيف وغيرها في نواحي عكا فملكوها واستباحوها وامتلأت أيديهم من غنائمها وبعث حسام الدين عمر بن الأصعن في عسكر إلى نابلس فملك سبطية مدينة الأسباط وبها قبر زكريا عليه السلام ثم سار إلى مدينة نابلس فملكها واعتصم الإفرنج الذين بها بالقلعة فأقرهم على أموالهم وبعث تقي الدين عمر بن شاهنشاه إلى تبنين ليقطع الميرة عنها وعن صور فوصل إليها وحاصرها وضيق عليها حتى استأمنوا فأمنهم وملكها ومر إلى صيدا ومر في طريقه بصرخد فملكها بعد قتال وجاء الخبر بفرار صاحب صيدا فسار وملكها آخر جمادى الأولى من السنة ثم سار من يومه إلى بيروت وقاتلها من أحد جوانبها فتوهموا أن المسلمين دخلوا عليهم من الجانب الآخر فاهتاجوا لذلك فلم يستقروا ولا قدروا على تسكين الهيعة لكثرة ما معهم من أخلاط السواد فاستأمنوا إليه وملكها آخر يوم من جمادى لثمانية أيام من حصارها وكان صاحب جبيل أسير بدمشق فضمن لنائبها تسليم جبيل لصلاح الدين على أن يطلقه فاستدعاه وهو محاصر لبيروت وسلم الحصن وأطلقه وكان من أعيان الإفرنج وأولي الرأي منهم والله تعالى أعلم..وصول المركيش إلى صور وامتناعه بها. كان القمص صاحب طرابلس لما نجا من هزيمة لحق بمدينة صور وأقام بها يريد حمايتها ومنعها من المسلمين فلما ملك صلاح الدين نسيس وصيدا وبيروت ضعف عزمه عن ذلك ولحق ببلده طرابلس وبقيت صيدا وصور بدون حامية وجاء المركيش من تجار الإفرنج من المغرب في كثرة وقوة فأرسى بعكا ولم يشعر بفتحها وخرج إليه الرائد فأخبره بمكان الأفضل بن صلاح الدين فيها وأن صور وعسقلان باقية للإفرنج فلم يطق الإقلاع إليهما لركود الريح فشغلهم بطلب الأمان ليدخل المرسى ثم طابت ريحه وجرت به إلى صور وأمر الأفضل بخروج الشواني في طلبه قلم يدركوه حتى دخل مرسى صور فوجد بها أخلاطا كثيرة من فل الحصون المفتتحة فجاءوا إليه وضمن لهم حفظ المدينة وبذل أمواله في الإنفاق عليها على أن تكون هي وأعمالها له دون غيره واستحلفهم على ذلك ثم قام بتدبير أحوالها وشرع في تحصينها فحفر الخنادق ورم الأسوار واستبد بها والله سبحانه وتعالى أعلم..فتح عسقلان وما جاورها. ولما ملك صلاح الدين بيروت وجبيل وتلك الحصون صرف همته إلى عسقلان والقدس لعظم شأن القدس ولأن عسقلان مقطع بين الشام ومصر فسار عن بيروت إلى عسقلان ولحق به أخوه العادل في عساكر مصر ونازلها أوائل جمادى الأخيرة واستدعى ملك الإفرنج ومقدم الراية وكانا أسيرين بدمشق فأحضرهما وأمرهما بالإذن للإفرنج بعسقلان في تسليمها فلم يجيبوا إلى ذلك وأساءوا الرد عليهما فاشتد في قتالهم ونصب المجانيق عليهم يردد الرسائل إليهم في التسليم عساه ينطلق ويأخذ بالثأر من المسلمين فلم يجيبوه ثم جهدهم الحصار وبعد عليهم الصريخ فاستأمنوا إلى صلاح الدين على شروط اشترطوها كان أهمها عندهم أن يمنعهم من الهراسة لما قتلوا أميرهم في الحصار فأجابهم إلى جميع ما اشترطوه وملك المدينة منتصف السنة لأربعة عشر يوما من حصارها وخرجوا بأهليهم وأموالهم وأولادهم إلى القدس ثم بعث السرايا في تلك الأعمال ففتحوا الرملة والداروم وغزة ومدن الخليل وبيت لحم البطرون وكل ما كان للفداوية وكان أيام حصار عسقلان قد بعث عن أسطول مصر فجاء به حسام الدين لؤلؤ الحاجب وأقام يغير على مرسى عسقلان والقدس ويغنم جميع ما يقصده من النواحي والله سبحانه وتعالى يؤيد من يشاء بنصره..فتح القدس. لما فرغ صلاح الدين من أمر عسقلان وما يجاورها سار إلى بيت المقدس وبها البطرك الأعظم وبليان بن نيزران صاحب الرملة وربيسة قريبة الملك ومن نجا من زعمائهم من حطين وأهل البلد المفتتحة عليهم وقد اجتمعوا كلهم بالقدس واستماتوا للدين وبعد لصريخ وأكثروا الاستعداد ونصبوا المجانيق من داخله وتقدم إليه أمير من المسلمين فخرج إليه الإفرنج فأوقعوا به وقتلوه في جماعة ممن معه وفجع المسلمون بقتله وساروا فنزلوا على القدس منتصف رجب وهالهم كثرة حاميته وطاف بهم صلاح الدين خمسة أيام فتحيز متبوأ عليه للقتال حتى اختار جهة الشمال نحو باب العمود وكنيسة صهيون يتحول إليه ونصب المجانيق عليها واشتد القتال وكان كل يوم يقتل بين الفريقين خلق وكان ممن استشهد عز الدين عيسى بن مالك من أكابر أمراء بني بدران وأبوه صاحب لمعة جعبر فأسف المسلمون لقتله وحملوا عليهم حتى أزالوهم عن مواقفهم وأحجروهم البلد وملكوا عليهم الخندق ونقبوا السور فوهن الإفرنج واستأمنوا لصلاح الدين أبى إلا العنوة كما ملكه الإفرنج أول الأمر سنة إحدى وسبعين وأربعمائة واستأمن له الباب ابن نيزران صاحب الرملة وخرج إليه وشافهه بالإستئمان واستعطفه فأصر على الامتناع فتهدده بالاستماتة وقتل النساء والأبناء وحرق الأمتعة وتخريب المشاعر المعظمة واستلحام أسرى المسلمين وكانوا خمسة آلاف أسير واستهلاك جميع الحيوانات الداجنة بالقدس من الظهر وغيره فحينئذ استشار صلاح الدين صحبه فجنحوا إلى تأمينهم فشارطهم على عشرة دنانير للرجل وخمسة للمرأة ودينارين للولد صبي أو صبية وعلى أجل أربعين يوما فمن تأخر أداؤه عنها فهو أسير وبذل بليان ابن نيزران عن فقراء أهل ملته ثلاثين ألف دينار وملك صلاح الدين المدينة يوم الجمعة لتسع وعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين ورفعت الأعلام الإسلامية على أسواره وكان يوما مشهودا ورتب على أبواب القدس الأمناء لقبض هذا المال ولم يبن الأمر فيه على المشاحة فذهب أكثرهم دون شيء وعجز آخر الأمر ستة عشر ألف نسمة فأخذوا أسارى وكان فيه على التحقيق ستون ألف مقاتل غير النساء والولدان فإن الإفرنج أزروا إليه من كل جانب لما افتتحت عليهم حصونهم وقلاعهم ومن الدليل على مقاربة هذا العدد أن بليان صاحب الرملة أعطى ثلاثين ألف دينار على ثمانية عشر ألفا وعجز منهم ستة عشر ألفا وأخرج جميع الأمراء خلقا لا تحصى في زي المسلمين بعد أن يشارطوهم على بعض القطيعة واستوهب آخرون جموعا منهم يأخذون قطيعتهم فوهبهم إياهم وأطلق بعض نساء الملوك من الروم كانوا مترهبات فأطلقهم بعبيدهم وحشمهم وأموالهم وكذا ملكة القدس التي أسر صلاح الدين زوجها ملك الإفرنج بسببها وكان محبوسا بقلعة نابلس فأطلقها بجميع ما معها ولم يحصل من القطيعة على خراج وخرج البطرك الأعظم بما معه من ماله وأموال البيع ولم يتعرض له وجاءته امرأة البرنس صاحب الكرك الذي قتله يوم حطين تشفع في ولدها وكان أسيرا فبعثها إلى الكرك لتأذن الإفرنج في النزول عنه للمسلمين وكان على رأسه قبة خضراء لها صليب عظيم مذهب وتسلق جماعة من المسلمين إليه واقتلعوه وارتجت الأرض بالتكبير والعويل ولما خلا القدس من العدو أمر صلاح الدين برد مشاعره إلى أوضاعها القديمة وكانوا قد غيروها فأعيدت إلى حالها الأول وأمر بتطهير المسجد والصخرة من الأقذار فطهرا ثم صلى المسلمون الجمعة الأخرى في قبة الصخرة وخطب محي الدين بن زنكي قاضي دمشق بأمر صلاح الدين وأتى في خطبته بعجائب من البلاغة في وصف الحال وعظة الإسلام اقشعرت لها الجلود وتناقلها الرواة وتحدثت بها السمار أحوالا ثم أقام صلاح الدين بالمسجد للصلوات الخمس إماما وخطيبا وأمر بعمل المنبر له فتحدثوا عنده بأن نور الدين محمودا اتخذ له منبرا منذ عشرين سنة وجمع الصناع بحلب فأحسنوا صنعته في عدد سنين فأمر بحمله ونصبه بالمسجد الأقصى ثم أمر بعمارة المسجد واقتلاع الرخام الذي فوق الصخرة لأن القسيسين كانوا يبيعون الحجر من الصخرة ينحتونها نحتا ويبيعونها بالذهب وزنا بوزن فتنافس الإفرنج فيها التماس البركة منها ويدعونها في الكنائس فخشي ملوكهم أن تفنى الصخرة فعالوا عليها بفرش الرخام فأمر صلاح الدين بقلعه ثم استكثر في المسجد من المصاحف ورتب فيه القراء ووفر لهم الجرايات وتقدم ببناء الربط والمدارس فكانت من مكارمه رحمه الله تعالى وارتحل الإفرنج بعد أن باعوا جميع ما يملكونه من العقار بأرخص ثمن واشتراه أهل العسكر ونصارى القدس الأقدمون بعد أن ضربت عليهم الجزية كما كانوا والله تعالى أعلم.
|